في تمغزة جنوب غربي البلاد، يقف الفلاح حسين ذو السبعين عاما ينتظر دوره متحليا بجميل الصبر. عاش الفلاح طيلة حياته في هذه الواحة الجبلية ويمتلك فيها أرضا تمسح نصف هكتار يزرع فيها التمور والرمان والخضروات.
*الساقية هي مجرى مائي يحفره الإنسان لتوجيه المياه إلى جزء من الأرض.
بعد هنيهة يناديه جاره من بعيد بأعلى صوته “حسنا لقد حان دورك!”. يفتح الفلاح ساقيته* بضربة فأس فيتدفق الماء هرهاراً نحو أرض حسين. “لحسن حظنا الماء هنا مجاني للجميع” يعلق الفلاح بابتسامة عريضة ثم يضيف “لولا ذلك لما كنت أدري كيف سنبقى على قيد الحياة”. وشيئا فشيئا يفتح كل فلاح واحدا تلو الآخر السبيل للمياه حتى تروي أرض الواحة بأكملها، بلا مقابل.
ريو، جان، ماري جيرالدي، وحبيبة نوري. “عندما يدخل التاريخ الشفوي في التصرف في المياه. الفضاء السقوي في الكرمة (تونس)”، فضاءات ومجتمعات، المجلد 160-161، عدد 1-2، 2015، ص 155-172.
هنا وفي أماكن أخرى من تونس، في واحة جمنة والزعفران، في عيون توزر وقفصة وقابس، في قلب سهول الظاهر القاحلة وشبه الصحراوية، يتم تقاسم الموارد بإنصاف ولا تزال الأراضي تُدار من قبل القبائل بعيدا عن نظام الخوصصة، كما تظل المياه والموارد الأخرى في هذه الواحات وغيرها مكسبا يتشارك فيه الجميع.
الملكية الفردية في جزء كبير من التراب التونسي لا تزال مفهوما “مستجدّا”، وتمر إدارة العديد من المناطق عبر هياكل اجتماعية تستند إلى نظام للتصرف في المكاسب والموارد يختلف عن مفهوم الملكية الفردية. وبالتالي فإن “المشاعات” – بما هي مفهوم يُراد به التصرف الذاتي حول مورد معين – لا تزال سائدة إلى اليوم.
“تطور الملكية العقارية وأثره في تونس”، الهادي سعيد، مركز الدراسات القانونية والقضائية لوزارة العدل، سبتمبر 1996.
وُجد مفهوم المشاع في تونس منذ آلاف السنين، وأخذ شكله الذي لا يزال قائما اليوم مع قدوم العرب إلى المنطقة. نفس الشأن كذلك في أماكن أخرى من شمال أفريقيا مثل مصر على ضفتي النيل، أو نحو الشرق الأوسط في سوريا والعراق حول نهري دجلة والفرات، وعبر شبه الجزيرة العربية في المملكة العربية السعودية واليمن.
تتوافق طريقة التصرف هذه مع تعريف المشاعات كما صاغته إلينور أوستروم خبيرة الاقتصاد السياسي الأمريكية والحائزة على جائزة نوبل في الاقتصاد بالشراكة مع أوليفر ويليامسون، من أجل التحليل الذي قامت به حول الحوكمة الاقتصادية وبالأخص حوكمة المكاسب المشتركة. ترى أوستروم أن المشاع والتصّرف المشترك فيه ينبغي أن يعتمدا على المبادئ التالية:
1)وضع حدود واضحة
2)مطابقة القواعد مع الظروف المحلية ووتيرة تجدد الموارد
3)تطوير القواعد التشغيلية بشكل جماعي من قبل الأشخاص المعنيين بالأمر
4) مراقبة تخضع للمساءلة أمام المستخدمين، أو مراقبة يضطلع بها هم بأنفسهم
5) التدرّج في العقوبات
6) آليات سريعة وغير مكلفة لتسوية المنازعات
7) الاعتراف بحق المستخدمين في وضع مؤسساتهم الخاصة بدون تدخل من السلطات الخارجية
8) تنظيم أنشطة الملكية والمشتريات والمراقبة والعقوبات وحل النزاعات والحوكمة صلب مؤسسات متشابكة تتألف من عدة طبقات.
الإدارة الجماعية للأراضي
على مدار العقد الماضي، كان نور الدين (65 عاما) وهو متفقد سابق للتعليم الثانوي يقضي معظم أيامه يخدم أرضه الواقعة في شمال قفصة ويسقي نباتاته ويعتني بها. من أعلى التل يمكننا رؤية الأراضي الفلاحية الشاسعة منتشرةً على مد البصر. ومن بعيد يبرز جبل عرباطة المهيب الذي آوى في وقت من الأوقات الأزهر الشرايطي* ورفاقه خلال الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي.
يقول نور الدين أن “كل هذه الأرض كانت ملكا لنا، ما زلت أتذكر ذلك الوقت لما كنت صغيرا وكنت أتجول في هذه الأراضي عند الفجر مع شياهنا وقطعان الأغنام والجمال”.
تتكون أراضي قبيلة “أولاد شريّط” بقفصة الشمالية من حوالي 4000 هكتار من الأراضي الفلاحية وفقا لعبد المجيد الفوراتي رئيس مجلس التصرف فيها. ولطالما كانت إدارة هاته الأراضي على مر التاريخ تتم بشكل جماعي، باستثناء تلك المحيطة بالدواوير* والمساكن التي كانت مملوكةً ملكيةً خاصة، في حين كانت بقية الأراضي ومعظمها من المراعي تخضع لحكم القبيلة والمجتمع المحلي.
تعتمد هذه الإدارة على تراتبية القبيلة التي تعيّن “المجلس” أو لجنةً مهمتها تعيين حدود الأراضي وتوزيعها على القبائل المحلية والمحاذية من أجل الحد من النزاعات المحتملة بينها أو تلك التي قد تنشب داخل نفس العرش. مفهوم المشاع إذن يستوجب تقاسما منصفا للجميع، وفي حال وقع نزاع يجتمع الزعماء للتباحث في حلول صالحة لمجتمعاتهم والتقليل قدر الإمكان من الخلافات.
كانت هذه المنظومة برمتها تمتثل لتعاليم الإسلام وعادات القبيلة من أجل ضمان أن يحصل الجميع على كفايتهم من القوت. وإذا حدث أن استُوجبت العقوبة – عادة بسبب سرقة أو إذا لم تُدفع الزكاة – فإنها تكون مسلّطة من المجموعة وقد تصل إلى حد الإقصاء الاجتماعي.
أبعد قليلا جهة ولاية مدنين، يمتد سهل الظاهر بقدر ما يمكن للعين أن تبصره من مدينة قابس حتى ليبيا. لطالما كان هذا السهل “الصحراوي” منطقة رعي على غاية من الأهمية بالنسبة لقبائل الرحّل وشبه الرحّل التي جابت هذه المنطقة في جنوب تونس. ولعدة قرون كان هذا السهل مكانا تنتجع فيه القبائل البربرية والعربية في وقت لم يكن فيه مفهوم الملكية الخاصة موجودا بعدُ، وكانت الأرض تُدار بشكل مشترك داخل نفس القبيلة وفقا لعاداتها وتقاليدها.
احتكت القبائل بعضها ببعض متّبعةً حدوداً معروفة وواضحة بين مختلف مراعيها.
فكان الحق السائد في تلك الربوع هو حق الاستخدام وليس حق الملكية: حيث يمكن للجميع استخدام الأرض والانتفاع بها دون أن يكون لهم الحق في بيعها أو التفويت فيها لشخص آخر. ومن هنا جاء معنى المكسب المشترك.
المكاسب المشتركة: تتميز هذه المكاسب بحق الاستخدام الجماعي، ولا يحكمها بأي حال من الأحوال حق الملكية. وبالتالي فإن المشاعات تكون موقوفة وغير قابلة للانتقال.
المشاعات: هي الممارسات والعمليات الاجتماعية التي ينخرط فيها الناس في تعاونهم قصد إدارة الموارد بشكل منصف ومستدام.
الأملاك المشتركة: تخضع لحقّيْ الاستخدام والملكية، ويمكن لمختلف المالكين·ـات تقسيمها وبيعها.
الإدارة الجماعية للمياه
على طول الطرق المحاذية للمساجد في جزيرة جربة، تمتد أساسات مستطيلة “تُدعى السبيل” مثلما يخبرنا إمام محلي. كان دور هذه الهياكل يتمثل في تجميع مياه الأمطار وإتاحتها لعابري السبيل والسكان ليرتوُوا ويسقوا دوابّهم، “وبعضها لا يزال يعمل إلى اليوم”.
هذه السبل بحسب الإمام هي هبات موّلها أشخاص أثرياء لفائدة المساجد وتكون تابعة لها، بينما الماء مكسب مشترك تابع للمجموعة ومتاح لهم على قدم المساواة. يُراد بكلمة السبيل بالعربية الطريق وتُستعمل كذلك للإشارة إلى بناء أو هيكل يُمنح للمجتمع كهبةٍ، أو كما في حالتنا هذه، لتوفير المياه للمارة بلا مقابل.
لكن تقاليد التقاسم العريقة هذه لم تسلم من التهديدات بل وحتى الإلغاء، وتم إسقاط تفريد الملكية إسقاطاً على هذه المجتمعات خلال الفترة الاستعمارية بالأخص، قبل أن تدعمه دولة ما بعد الاستقلال: حيث انطلقت عملية تفريد الملكية بفرض السجل العقاري (دفتر خانة) في سنة 1881 والذي تواصل مع السلطات التونسية بعد ذلك. وفي عام 1898 فرض مرسوم استعماري تسليم 2000 هكتار سنويا إلى “البايليك” (أملاك الباي) وهوجمت أراضي “الحبوس” بنفس الشاكلة إلى حين ألغى الرئيس الحبيب بورقيبة في 18 جويلية 1957 “الوقف” كلّيا. وكان هذا الإلغاء ينساق في عملية انتزاع للملكية سعت من خلالها الدولة إلى بسط سيطرتها على مختلف الموارد العقارية للسكان.
هذه التدابير ليست سوى استمرارية منطقية لسياسةٍ ليبرالية لا تثمن شيئا غير الإنجاز الفردي، وهو نظام يتناقض شديد التناقض مع المشاعات التي تدور حول خلق توازن مع المورد، وإيلاء الأفضلية لمصلحة المجموعة على مصلحة الفرد.
هذه التدابير ليست سوى استمرارية منطقية لسياسةٍ ليبرالية لا تثمن شيئا غير الإنجاز الفردي، وهو نظام يتناقض شديد التناقض مع المشاعات التي تدور حول خلق توازن مع المورد، وإيلاء الأفضلية لمصلحة المجموعة على مصلحة الفرد.
ماذا بقي من المشاعات؟
احتضنت واحة تمغزة في ولاية توزر على مر التاريخ عدة حضارات اتخذت موطنا لها في الأراضي التونسية. وتُعد هذه الواحة موردا مائيا ومنطقة فلاحة لقبائل الرحّل وشبه الرحّل والقبائل المستقرة إلى يومنا هذا، مثلما هو الشأن بالنسبة للفلاح حسين.
“الماء هنا مجاني للجميع ! ولطالما كان الأمر كذلك وسيظل كذلك!” يقول محمد عضو مجمع التنمية المحلية بتمغزة.
لكن الحال مغاير بالنسبة للكثير من الفلاحين التونسيين الآخرين الذين يكافحون من أجل الحصول على المياه في جميع أنحاء البلاد. إذ تعاني العديد من مجامع التنمية الفلاحية (GDA) والجمعيات المائية من عجز كبير في ميزانياتها نظرا لارتفاع تكاليف الماء والكهرباء وتأثير تغيرات المناخ على منسوب المياه في العيون ونضوبها.
للواحات في تونس تقليد عريق في التوزيع الجماعي للمياه والتي لا تكون مملوكة لأيٍ كان. من قفصة إلى قابس مرورا عبر توزر، غالبا ما يتحدث كبار السن عن وقت كانت فيه المياه تجري مجراها الطبيعي وتُقسّم وفقا لاحتياجات كل فرد ومساحة أراضيه.
“لم يدفع آباؤنا ولا أجدادنا ثمن المياه أبدا، فمياه الواحة كانت تأتي من المنبع إلى الوادي وتمر عبر الأراضي. وكان لكل فرد نصيبه وفقا لاحتياجات محاصيله”، يشرح لنا زكريا الهاشمي، فلاح مختص في زراعة البذور بواحة شنني بقابس.
يسمح نظام إدارة وتوزيع المياه المتوارث عن الأجداد بتحقيق المساواة بين الجميع عبر استعمال السواقي الرئيسية التي تمر عبر الواحة والسواقي الثانوية التي تروي الأراضي. وتُحتسب حصة كل فلاح (باستعمال الشبر* أو الصنتيمتر مكعب) وفقا لمساحة الأرض المراد ريّها وتمرّ المياه عبر الساقية لمدّة معينة من الزمن.
“لم نكن نشتري الماء في الماضي ولكن كنا جميعنا نتمتع بحق النفاذ إليه”، يقول عمار وهو فلاح يمتلك هكتارين من الأرض، مضيفا أن “لكل فرد الحق في نصيبه الخاص”.
يتحصل الجميع في إطار هذا النظام على المياه كلًّ في وقت محدد من اليوم. وكان الأكبر سنا والمشهود لهم بحكمتهم ودرايتهم حرّاس هذا النظام ويسهرون على حسن توزيع المياه بشكل عادل، ولا يمكن الطعن في قراراتهم لما لهم من وقار في الهيكل الاجتماعي للواحة.
هناك أيضا نظام لمعاقبة من يعيقون العملية أو يبقون سواقيهم مفتوحة لفترة أطول من اللازم، ويُعاقب هؤلاء من قبل المجموعة عقابا اجتماعيا قد يؤدي إلى فقدان ثقة أقرانهم بهم.
هكذا، وإلى جانب الإدارة المشتركة، فإن هذا المفهوم حاسم في صيرورة إنشاء المجتمع والحفاظ عليه واستبعاد المخالفين.
أما اليوم فإن إدارة المياه في واحة قابس تتم من قبل مجمع التنمية الفلاحية بالمنطقة. فصارت المياه تجري في سواقي خرسانية لتروي كل أرض من الواحة في وقت محدّد. ويحتسب المجمع ساعات المياه ويتلقى مقابلها مستحقات يدفعها له المستخدمون من الفلاحين. هذه الطريقة أسفرت عن تفريد الفلاحين·ـات في حين يحفر الأغنياء آبارهم الخاصة أين كانت المياه في وقت غير بعيد مشتركة وبلا مقابل. فقط عدد قليل من الأماكن لا تزال محاقظة اليوم على نظام المشاع مثل تمغزة أين يعيش حسين.
لطالما حظيت المشاعات بمكانة رئيسة في تونس تواصلت على مدى قرون. وحتى وإن نشبت نزاعات حول الموارد داخل المجموعات أو فيما بينها فإن معارف الأجداد والمهارات المتوارثة عنهم تطورت لديها حول فكرة المشاعات التي قد تتخذ أشكالا مختلفة بقدر اختلاف مواطنها في العالم أجمع.
وعلى هذا المنوال استمرت المشاعات وتطورت عبر القرون. وفي وقتنا الحاضر صارت معايير جديدة تُطبّق حول المشاعات: عدالة أكثر مساواة، ومكانة مهمة للمرأة وما إلى غير ذلك. لكن الهدف يظل هو نفسه: ضمان الحفاظ على الموارد واستدامتها وحوكمتها برشد، حتى عندما ينطوي ذلك على مقابل مالي.
لا تندر في تونس الأمثلة على ذلك ولا القصص وراءها، وتوجد عدة أساطير حول وفرة الموارد ونظام العدالة القديم الذي يُعتبر أكثر إنصافا. كما أن الآثار تشهد على طريقة الحياة هذه ولا تزال بعض البقايا في الأراضي القاحلة الجنوبية شاهدةً على مقاومة تلك المجموعات للفردانية وخصخصة الملكية.