بقبعة من القش مثبتة على جبهته ومعول في يده، ينحني إلياس لالتقاط حفنة من البوسيدونيا المجففة المتناثرة على الأرض ليُرينا إياها قائلا بأسف: “يرى البعض أنه ضرب من الجنون أن أفرش هذا في حديقتي”..
لم يجنّب الجفاف في العام الماضي الجهة، لكن حديقة إلياس أينعت بالرغم من ذلك. وفقا لباعث المشروع فإن نباتاته تستمد قدرتها على المقاومة من فراش البوسيدونيا الذي نشره فوق التربة ليحدّ من تبخر المياه. “لم تمطر السماء منذ 10 أشهر لكننا نستعد هنا لأسوأ من ذلك بكثير… فالزراعة المستدامة تقدم لنا حلولا واقعية للمستقبل”. يجدر التذكير بأن درجات الحرارة المرتفعة جدا والتربة الجافة ستصبح بحلول نهاية القرن هي القاعدة بالنسبة للفلاحين والفلاحات التونسيين·ـات.
منزل مهجور صار “جنة” للفلاحة المستدامة
في دار امّيمة (عبارة تونسية تعني منزل الجدّة) تتنظّم الحياة حول مفهوم الفلاحة المستدامة التي نظّر لها مفكّرون أستراليون في سبعينيات القرن الماضي، وتعني كما يعبّر عنها إلياس “فن خلق بيئة مواتية لحياة الإنسان تقوم على ما يتوفر من موارد متاحة”. واستنادا إلى فلسفة الاستقلالية والاستدامة والتجديد فإن الزراعة المستدامة “تذهب إلى أبعد من مجرد البستنة”. وهو ما يصرّ صاحب المكان على تذكيرنا به: “نحن لسنا مجموعة من الهيبيز تمارس الفلاحة !”.
ينحدر إلياس المكشر من خلفية حضرية ويعرف جيدا الصور النمطية الملتصقة بممارسي وممارِسات الفلاحة المستدامة في تونس. ولد الرجل ونشأ في العاصمة أين درس المعلوماتية والمراقبة الإدارية. غير أنه لم يكن متحمسا للآفاق التي مهدها له تكوينه الأكاديمي، فأجاز له والداه فعل ما يريد شريطة الحصول على شهادة الماجستير. “وذلك ما فعلته بالضبط، تخرجت وفعلت ما حلا لي… ركبت طائرة وذهبت إلى الهند في رحلة باتجاه واحد”. مكث إلياس هناك لمدة ستة أشهر ثم واصل السفر من مكان إلى آخر: ماليزيا والصين والبرازيل والولايات المتحدة.
“لقد قمت برحلة لاكتشاف الذات دامت ثلاث سنوات بحثت فيها عن الحرية. اختبرت ذلك من خلال عيش حياة بدوية والانتقال كل يومين أو ثلاثة أيام من ضيافة عائلة إلى ضيافة أخرى، وحاولت التعايش مع الناس والمشاركة”.
لم ينقطع الشاب عن السفر بعودته إلى تونس، فجاب جميع أنحاء البلاد على دراجته إلى أن قادته الصدفة يوما إلى مزرعة يقوم عليها فلاحون مستدامون في القيروان. رحّب به هؤلاء وفي دورة تكوينية كانوا بصدد تنظيمها وقتها فاستمد منها إلياس دروسا قيّمة ولّدت فيه رغبة جامحة ليضعها موضع التنفيذ بمجرد أن تسنح له الفرصة.
يشرح إلياس لنا: “أردت أن أخلق جنتي الخاصة لكنني اعتقدت أنني في موضع لا أملك فيه شيئا ولم تكن بحوزتي أي موارد”. وفي أحد أيام 2016، تذكر إلياس منزل جدته الواقع في الشابة والذي ظل مهجورا منذ وفاتها قبل عقد من الزمان: “كان البيت وحديقته خاليين ما عدا عدد قليل من الأشجار المحتضرة في الحديقة حوله”. وفي غضون بضعة أشهر قام هو وزوجته بترميم المكان لجعله جنة للزراعة المستدامة بجميع أشكالها.
رعاية الأرض، ضمان الوفرة
للفلاحة المستدامة عدة تعريفات، لكنها كلها تستند دائما إلى المبادئ الثلاث نفسها: رعاية الأرض، رعاية الإنسان وتقاسم الفائض بشكل عادل. بالنسبة لكل من يزور دار اميمة فإن المبدأ الأول سرعان ما يأخذ معناه الكامل فور اجتياز الواجهات البيضاء الناصعة ونوافذها اللازوردية، والولوج عبر باب خشبي يؤدي مباشرة إلى حديقةٍ غنّاء تمسح 800 متر مربع، خدمها إلياس على مدار ما يقرب من سبع سنوات.
عبر انحناءات المسارب، يبرز لنا الفلاح تنوع النباتات التي استطاع زراعتها: شجرة لوز وبتراف ونبتة فراولة وشجرة موز ورمانة بل وحتى الخيزران. غلال كثيرة تنمو في حديقته ليست في العادة مما تُعرف به هذه الجهة الواقعة في الساحل التونسي.
تنتشر في المكان كذلك نباتات الحرّيقة، كما نجد بركة مغطاةً بالطحالب تسبح فيها أسماك. يقول إلياس إن “كل شيء في الطبيعة مفيد”. وتستضيف الحديقة أيضا سلحفاة وكلبا ودجاجات وحتى عشا لطيور الشحرور التي فقس بيضها لتوه و”ستكون قادرة قريبا على أكل ديدان الأرض لمنع انتشارها المفرط”. توازنٌ طبيعي يجد فيه الجميع دورا يلعبه.
يقول إلياس بابتسامة تغطي محيّاه إن “الحيوان الوحيد الذي قد يزعج هذا التوازن بعض الشيء هو قطنا. إنه مجرم لا يقتل ليقتات بل لمجرد اللهو فحسب”.
وحتى يقدر على تحقيق هكذا نتائج، أمضى إلياس سبع سنوات في دراسة أداء النظم البيئية الطبيعية من أجل إعادة إنشاء خصائصها في دار امّيمة. “الركيزة الأولى للزراعة المستدامة هي ‘اعتن بالأرض’. وهو ما قد يعني الرعاية ولكن أيضا الاهتمام بالأرض وتفهّمها”.
يهدف الفلاحون والفلاحات المستدامون في المقام الأول، من خلال تقليد الطبيعة في ممارساتهم، لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء. يقول إلياس: “قريبا لن أحتاج إلى قضاء وقت طويل في البستنة، كل شيء سينظم نفسه بشكل مستقل”. ومع ذلك فإن تطلعات الزراعة المستدامة تتجاوز بكثير الضرورة البسيطة المتمثلة في الكفاف الذاتي، إذ يجب أن تسمح في نهاية المطاف بخلق المزيد من الموارد. وعلى هذا النحو يهدف الفلاحون·ـات المستدامون إلى منافسة أساليب الإنتاج الصناعي التي تعود بكثير من الضرر على التربة.
عند مخرج المدينة، تمتد أراضي الزيتون بقدر ما يمكن للعين أن تراه. ورث إلياس وعائلته قطعة أرض صغيرة من جدهم تقع في وسط تلك الحقول وشرع في خدمتها العام الماضي. ويستغرق الوصول إلى هناك بالسيارة عشر دقائق من المنعرجات بين الأراضي المحروثة، المتجانسة والرتيبة.
يقول إلياس: “أنا أدعوها صحراء أشجار الزيتون”. “هنا سُلخ سطح الأرض كما لو أننا أزلنا جلده لحرثه. التربة ميتة”.
يتباين حقل إلياس بشدة مع ما حوله، فأرضه لا تُحرث والتربة تُترك مغطاة بالحياة التي تتفتح على سطحها أوائل الربيع. زرع الفلاح كذلك الصبار ونبات الألوفيرا حول أشجار الزيتون بشكل يسمح له “بتنويع مصادر دخله” وعدم الاعتماد حصرا على بيع الزيتون، وهو مبدأ آخر من مبادئ الزراعة المستدامة حسب توضيحه.
يكمن الهدف الرئيس في إنتاج أكبر عدد ممكن من الموارد دون المساس بتوازن النظم البيئية: “الزراعة المستدامة ليست هواية نقوم بها من أجل اللهو بل يمكن أن تخلق اقتصادا مهنيا متكاملا” في سبيل الوصول إلى مرحلة “وفرة الموارد”، وهي مرحلة تسمح بعد ذلك بتوزيع فائض الإنتاج بشكل عادل.
العودة إلى جذور النظام الاجتماعي
دار اميمة لا تتعلق بحديقتها وأشجار الزيتون فحسب. ولئن كانت الركيزة الأولى للزراعة المستدامة تنطوي على التركيز على الطبيعة، فإن الركيزتين الأخريين تتناولان أنماط تنظيم المجتمع. الاهتمام بالغير وتقاسم الفائض هما أيضا من ضرورات الاستدامة وفق ما يراه إلياس: “إذا أردنا من فلاحتنا أن تدوم فنحن بحاجة إلى مجتمع عادل… وإذا غاب عنه العدل، سينقلب حتما يوما ما”.
تنضوي الزراعة المستدامة على التوزيع المستدام لأي شكل من أشكال الموارد وإن كانت غير مادية. وهو ما دفع إلياس “المحب للتعليم والبيداغوجيا” أن يجعل من دار اميمة مكانا للتكوين تقبل عليه مجموعات المتدربين والمتدرّبات كل سنة للإقامة هناك مدة اثني عشر يوما لمتابعة دورة في تصميم الزراعة المستدامة (PDC) تضم ورشا نظرية وعملية.
يرى الشاب أن إتاحة الفرصة للمتدربين والمتدربات للمجيء والعيش في المنزل، بينما هو يلقنهم معارفه، ينخرط أيضا -على مستوى إنساني- في منطق الزراعة المستدامة. “كل الامتيازات التي نتمتع بها نتشاركها: مكان هادئ، طعام صحي معد بحب، غرفة نظيفة.”
ومن أجل ضمان استقرار هذا النموذج وقدرته على استيعاب المتدربين والمتدربات في أحسن الظروف، وضع إلياس نظام تسعير على مرحلتين: يدفع المتدربون مبلغا ثابتا قبل التدريب (ما بين 600 و 1000 دينار)، ثم يسددون بعد التدريب مبلغا متغيرا “بناء على رضاهم عن التكوين وإمكانياتهم”. هذا النظام لا يتعارض البتة مع مبادئ الزراعة المستدامة وفقا له، بل على العكس تماما: “لقد أشرفت على تكوين مجاني في الماضي لكنه أمر غير مستدام. في الطبيعة لا شيء مجاني، هنالك دائما تبادل”.
خلق صلات بين الناس هي أيضا رؤية طويلة المدى: “هدفنا يتمثل في إنشاء مجتمع متماسك حولنا، وأعتقد أن كل البشر يجب أن يكونوا مزارعين مستدامين”.
يتطلع صاحب دار امّيمة من خلال التكوين الذي يؤمّنه إلى ملء فراغ ملموس في تونس إذ “لا يوجد تقريبا مدربون يتحدثون اللهجة. والوضع ليس أفضل في بلدان شمال إفريقيا الأخرى حيث يعدّ المكوّنون المحليون على أصابع اليد الواحدة. ذلك لا يكفي” يقول إلياس بحسرة.
الافتقار إلى مكوّنين محلّيين أمر مؤسف كون الزراعة المستدامة بعيدة عن أن تكون اختراعا جديدا لأنها في الأساس “تستند إلى معارف الأجداد التي طواها النسيان” على حد تعبيره. حيث راقب مؤسسو هذا النمط الفلاحي الأستراليون مجتمعات السكان الأصليين في بلدهم قصد التنظير لهذا المفهوم، بينما تتميز تونس أيضا بتقاليد تُحسب على الفلاحة المستدامة وفقا لإلياس: “كل الفلاحين التونسيين إلى حدود السبعينيات كانوا يمارسون الفلاحة المستدامة”.
لا يشير الشاب هنا إلى دخول الفلاحة التونسية في العصر الصناعي فحسب وإنما أيضا إلى التنظّم الاجتماعي نفسه: “كان كل شيء مشتركا في ذلك الوقت. عندما كنت صغيرا في الشابة لم تكن أبواب المنازل مغلقة أبدا وكان يمكنك الولوج والحصول على الطعام والشراب”. بعبارة أخرى، كانت أخلاقيات الزراعة المستدامة منتشرة في البلاد قبل حتى أن يتم تنظيرها.
“أفضل مثال على ذلك هو الواحات”، يواصل إلياس. “كان الاقتصاد إلى حدود الثمانينات دائريا بما يعنيه ذلك من إتاحة الموارد وتشاركها والعمل اليدوي… ثم اضمحلّ كل ذلك لحساب الفلاحة الأحادية”.
دار امّيمة، منارة للأجيال القادمة
يسعى إلياس من خلال جعل دار اميمة مكانا للمشاركة والتعلم إلى إعداد بلاده لما ينتظرها من اضطرابات مستقبلية. فالزراعة المستدامة هي في واقع الأمر مسألة استقلالية وسيادة غذائية على المستوى الوطني بأسره: “يعيش الناس هنا معتمدين كل الاعتماد على المنظومة التي تفرض استخدام الأسمدة والبذور. لو قامت حرب في أوروبا لانقطعت إمداداتنا تماما ولن نعود قادرين على الفلاحة”.
يرى إلياس أن مفهوم الزراعة المستدامة تتطرق في المقام الأول إلى القضايا العالمية من خلال اقتراح حلول لأزمة المناخ المتواصلة: “النظام الرأسمالي بأكمله بصدد الانهيار. وبعد هذه السقطة سوف ينتقل الناس لا محالة إلى الزراعة المستدامة”. لكن الاستعداد لطريقة الحياة هذه ينبغي أن يبدأ اليوم: “في تونس كما في أي مكان في العالم الزراعة المستدامة صارت ضرورة ملحة”.
يقول إلياس: “نحن بحاجة إلى جيش من المزارعين المستدامين لنكون قادرين على صنع مستقبل ممكن” ويوضح أنه قد اكتسب “رؤية متفائلة للمستقبل” بفضل نمط الحياة هذا.
يطمئننا إلياس مشيرا إلى أن “أكثر فأكثر من التونسيين” يتجهون إلى الزراعة المستدامة “وخاصة من جيل الشباب”. وبالرغم من كل الصور النمطية والنظرات الساخرة فإن الناس “على تمام الإدراك بأهمية هذا الموضوع”. ذلك أنه بالنظر إلى الحدود الظاهرة للمنظومة الحالية فإن المبادرات التي تعزز قيم “المشاعات”، من قبيل إعادة توزيع الموارد والألفة الاجتماعية، آخذة في الانتشار بفضل عمل الأفراد والجمعيات.
وهكذا تصوّر إلياس المكشّر دار امّيمة كمثال للشباب التونسي أملا في رؤيته يسير على نفس الطريق الذي سلكه. “هل تعرف لماذا احتفظت بهذا الاسم للمنزل؟” يسألنا الشاب بابتسامة خفيفة، “لأن أكثر من نصف التونسيين لديهم منزل، دار امّيمة، بيت جدتهم الذي نسوه… وإذا بحثوا عنه لوجدوه وصنعوا جنتهم فيه”.
